الجمعة، 20 مايو 2016


حدَّثني العالم الباحث محمدن بن محمدْ بن حمَّينَّ في مكتبه يوما في قسم المخطوطات بدار الثقافة قال: قدمتُ مرة إلى حضرة الشيخ سيدي محمد التاكنيتي فأمَّ بنا صلاةَ المغرب غداة أحد العيديْن و كنت ممن يليه في الصف الأول.
استحضرت أن الصحابة كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلَّم عن أمره فيحدثهم عن تفاصيل كل ذلك فما كان منِّي إلاَّ أن قلت له :هلاَّ أخبرتنا يا شيخُ عن مُبتدأ أمرك؟ فوقع السؤال على الحاضرين موقعا لا يتصوَّرُ و تدافعوا يقتربون منا حتى كوَّنوا من حولنا دائرة بشرية كثيفة و هم ينصتون بكل خشوع و كأن على رؤوسهم الطير.
قال الشيخُ: بعدما أخذتُ من العلوم المحظرية ما شاء الله تأججت في داخلي رغبة جامحة إلى من أُحظى لديه بطريق التربية و السلوك فأخذتُ عدتي للسفر بحثا عن ضالتي المنشودة صحبة صديق من أبناء عمومتي.التقينا في أبي تلميت بالشيخ محمد فال بن بابَ بن أحمد بيْبَ فأخذ عنه رفيقي الطريقة التيجانية و مدح رفيقه ذلك بما يفيد حسن أثرها عليه و لمَّا يزل على قيد الحياة آنذاك. و في بوتلميت لقيت ركبا من مريدي الشيخ أحمد حماه الله فذكروا من أمره ما شوقني إليه فرافقتهم نحوه.وصلنا حضرته ظهرا فإذا به يتوسط المجلس بطلعته البهية و يحدث عن مسوِّغات القصر الذي يتَّبعُه .أنكرني الرفقاء لمَّا لم أبادر إلى مبايعته و صادف أن ذهب حرس المستعمر بجملي كعادتهم في بعض الظروف.مكثت هنالك أياما و في إحدى الليالي رأيتُ في ما يرى النائم وكأن جدَّنا ألفغ الحمِّد يضع أحد أصابع يدي اليمنى في موضع الزمام من جملي و يقتاده معي مغادرين حيَّ الشيخ في اتجاه معيَّن.تيامنتُ بالرؤيا و في الصباح الباكر ذهبت كعادتي أتمشَّى خارج الحيَّ فإذا بجملي ضمن جمال يحرسها حارس في حِمى الحي.أسرعتُ نحوه و أخذت بزمامه فانتهرني الحارس قائلا: دعْ عنك الجمل إلاَّ أن يكون فلانٌ أذن لك باسترجاعه! قلت بداهة: هو كذلك.فقال الحارس: إذن فلتترك الزمامَ على الأقل. نزعتُ الزمام و إذا بي أتنبَّه إلى أنني أقتاد الجمل بذات الصيغة و في نفس الإتجاه الذي رأيت في المنام! و في مكان ما من الطريق سمعت عن الشيخ أحمد بن آدبَّ فأتيته و لنا معه قرابة فصحبته ردحا من الزمن و أحببتُه .و قد عنَّ لي أن أقفل راجعا إلى الأهل.و بينما كنت في الطريق إذ سمعت من أمر الشيخ التراد بن العباس في آكَوينيت ما أغراني بأن أعرِّج عليه .كنت مترددا في أخذ الطريقة عليه .و في أول لقاء بيننا قال لي: إنَّ من الواردين إلينا من يتردد في الأخذ علينا و نحن منه أكثرَ حيرة في منحه طريقتنا هذه.قال: فأخذتُ عنه الطريقة القادرية لا على نية المكث معه طويلا.ثم ما لبثت أن جئتُه أستأذنه في الذهاب فما أذن لي في ذلك بحجة ساقها فاستسغتُها.طلبته أن يعين لي خدمة فجمع عليَّ أطفال الحيَّ أقرئهم القرآن.ثم عدت إليه بعد ذلك أطلب خدمة أكثر كلفة فأمرني برعاية قطيع من بقر الحضرة ففعلتُ.و هكذا مكثت معه ما شاء الله إلى أن سرَّحني فعدت إلى الربوع و كأنَّ لسان حاله يقول: فكان ما كان مما لست أذكره== فظنَّ خيرا و لا تسأل عن الخبر!
و أشفع بحكايتين أخرييْن في سياق متَّصل.حدَّثني العارف بالله العالم العامل شيخي احمادَ بن محمدُّ بن ابَّا قال إن العالم المشهور محمدْ بن حمَّينَّ و هو والد محمدن صاحب الحكاية السابقة أخبره أنه حلَّ عليه دينٌ مِقدارُه أربعون أوقية و هو مبلغ ذو بال آنذاك فذهب في طلبه و أثناء سفره ذاك استرعت انتباهه خيمة كبيرة فقصدها فإذا بها جمع غفير يتوسطه شيخ مهِيب و ما إن اقترب حتى هبّ إليه الشيخُ قائلا لتلاميذه: قوموا إجلالا لمحمد بن حمينَّ فإنه عالم كل فنٍّ! و هناك علمتُ أنه الشيخ سيدي محمد التاكَنيتي و لم يلتقيا قطُّ. قال محمدْ:و لمَّا هممت بالإنصراف ضحوة أهداني عشرين أوقية و ودعني قائلا: إن تجاوزتَ من الكثبان و السهول كذا و كذا فتنبَّه إلى خيام في جهة كذا فلا ضير أن يكون مقيلُكما هناك و كان معي رفيق.قال محمد فكانت معالم الطريق كما وصف الشيخ و جاء مقيلنا لدى أسرة في طرف الخيام التي ذكر.و بعد أن انصرفنا عشيةً مواصلين طريقنا و انفصلنا عن الخيام إذا بشخص يلتحق بي مسرعا فإذا هو من ذوي مودتي الأقربين فقال لي: عرفتك ابَّان قدومك و لمَّا تزل على مشارف الحي فما ظننتك إلاَّ نازلا عندنا فأحضرتُ هذه الشاة قِرًى لك و ما دمت ذاهبا فلا بدَّ أن تصطحبها معك، فقد صارت ملكا لك.قال محمد:لا حيلة لي باصطحابها و آل رأيهما إلى أن يرجع بها المانح إلى الحي ليبيعها و ياتي بثمنها فإذا الثمنُ عشرون أوقية كذلك! قال محمد و بعد ذلك بعهد طويل التقيت من جديد بالشيخ و بعد مراسيم السلام المعتادة سألني قائلا:هل قضيتم مقيلكم يومذاك حيث أشرتُ لكم؟ قلت: نعم. فأردف سائلا بالحسانية:"ذاكْ كمَّلْ لك ذاكْ ؟
"و أختم فأقول إنَّني أخشى أن يكون من بين قرَّاء هذه التدوينة من لا تزال تختلط في ذهنه المفاهيم فيشبه موقفُه موقفَ صديق سابق لي من الجماهيرية كان يعمل مديرا عاما لإحدى المؤسسات المشتركة بين البلدين.كان حظه من الثقافة الدينية محدودا و لكنه محب للخير فعَّال له.سألني مرة عن ظاهرة الأولياء و الصالحين في بلادنا فأفضتُ في الشرح مركزا على معيار الإستقامة على الدين لتمييزهم من غيرهم.ثم ذكرت له أنني لقيت في تونس رجلا صالحا هو ولي من أولياء الله الصالحين.ثم استدركت فقلت: و كما كانت ليبيا في السابق معدنا للعلم و الصلاح فلا بد أنها لا تزال تحتضن حتى اليوم من أحفاد و ورثة هؤلاء العدد الكثير.عندها قاطعني قائلا:" فعلا ..فعلا .. كان في الجماهيرية الكثير من الأولياء وعباد الله الصالحين و لمَا جاءت الثورة 1969 جمَّعوهم ،و عرضوهم أمام التلفزيون ،و فضحوهم أمام الرأي العام. ففهمتُ أنه اختلط في ذهنه مفهوم العارفين و المشعوذين!
من صفحة الأستاذ (Abderrahman Ibn Abderrahim)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق